خولة بنت حكيم التي نزلت فيها سورة المجادلة
هذه السيدة صاحبة فضل ممتد على سائر المسلمين من الرجال والنساء سواء بسواء، كانت سببا وراء تحريم عادة الظهار التي انتشرت أيام الجاهلية.
سمعها الله تبارك وتعالى وهي تشكو حالها إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد أن تقدم بها العمر وتولى عنها قطار الشباب.
كانت طوال حياتها مثالا للزوجة الوفية المخلصة، ترعى شأن بيتها وتؤدي واجبها تجاه زوجها وتبذل قصارى جهدها من اجل تربية أبنائها، وبعد هذا كله ينتهي الحال إلى هذا المصير.
وكان الرجل إذا قال لزوجته هذه الكلمات حرمت عليه، فاستجاب الله لندائها ودعائها، وانزل فيها 4 آيات كريمات تتلى على الناس، تبين لهم الخطأ من الصواب، والحلال من الحرام.
هي خولة بنت حكيم بن مالك بن ثعلبة، تزوجت من ابن عمها أوس بن الصامت فكانت له نعم الزوجة، اختلفت معه في يوم من الأيام، أو ناقشته في أمر من أمور الحياة، فغضب وثار ونطق بما كان يقال في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي.
تركها وانصرف إلى حال سبيله، ثم عاد إلى بيته وطلبها، لكنها ابت وصممت على أن تسأل رسول الله عن الوضع الذي انتهى إليه أمرها بعد هذه الكلمات.
توجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصت عليه ما جرى، فانتظر وحي السماء.
قالت له: إنني امرأة كبرت سني، ورق عظمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وان أبقيتهم معي جاعوا.
جاء الحل من عند الغفور الرحيم، بأن يعتق قائل هذه العبارة رقبة (يحرر عبدا أو أَمة)، فإن لم يستطع فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فعليه إطعام 60 مسكينا.
قالت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: يا رسول الله، زوجي أكل شبابي، حتى إذا كبرت سني ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك.
يقول الحق تبارك وتعالى: “قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِن اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(1) الذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم من نسَائِهِم ما هُن أُمهَاتِهِمْ إِنْ أُمهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً منَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِن اللهَ لَعَفُو غَفُورٌ(2) وَالذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نسَائِهِمْ ثُم يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أَن يَتَمَاسا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(3) فَمَن لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسا فَمَن لمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)” (المجادلة).
أمرها النبي بأن تخبر زوجها بحدود رب العالمين وتطلب منه أن يعتق رقبة.
قالت: هو رجل فقير لا يملك شيئا.
قال: “عليه بصيام شهرين متتابعين”.
قالت: هو شيخ كبير لا يستطيع الصيام.
قال: “عليه إطعام 60 مسكينا”.
قالت: ليس عنده ما يطعمهم به.
أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم، وعاء من تمر، وقالت إنها ستعطيه مثله، ليتصدق بهما، وتنتهي المشكلة.
قال لها: أحسنت يا خولة، اذهبي وتصدقي عنه، وأوصاها بزوجها وابن عمها خيرا.
كانت خولة تحسن عشرة زوجها وتعطيه من مالها، ولا تقصر في حقه بأي صورة من الصور، وتطبيق ما أمرها به ولكن في غير معصية الخالق.
فلما وقع ما وقع، خافت أن تعتدي على حد من حدود الله، وأصرت على أن تذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتقص عليه ما جرى وتسأله عن موقفها من زوجها، وتبحث عن حل لمشكلتها.
كان الظهار ضمن عادات الجاهلية السيئة التي هددت كيان الأسرة والمجتمع، ونشرت الفساد والرذيلة في هذا العصر.
وعندما جاء الإسلام تغير كل شيء وجاءت معه القيم النبيلة والأخلاق القويمة، وتراجعت أمامه شريعة الغاب التي سادت المجتمع الجاهلي.
كانت الهجرة الأولى في صدر الدعوة إلى الحبشة، سألهم النجاشي عن حالهم قبل الإسلام وبعده.
قال جعفر بن أبي طالب لملك الحبشة: كنا قوما أهل جاهلية، نعبدالأصنام ونأكل الميتة ونأتي بالفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف”.
وأضاف جعفر، وهو يصف التغيير الكبير الذي طرأ على حياتهم: “عشنا على هذا الحال، حتى أرسل الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، نعبده لا شريك له، وان نترك عبادة الأصنام والحجارة.
أمرنا الدين الجديد بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، واكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به”.
وقد انتشرت الدعوة الإسلامية بين الناس لأنها تتوافق مع الفطرة السوية، وفيها الخير للناس في الدنيا والآخرة.
وانتشرت بفضل النبي الكريم الذي عرضوا عليه سائر متاع الدنيا فرفض، وقال لهم: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى ابلغه أو أهلك دونه”.
وانتشرت أيضا بفضل صحابة كرام “رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”.
وبفضل صحابيات كريمات ونساء فضليات لم يقتصر دورهن على طاعة الأزواج أو رعاية الأبناء، ولكن خرجن إلى الجهاد وحملن السيوف إذا اشتدت الخطوب وأقبلت الأخطار. وعندما ذهبت خولة بنت حكيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تحمل شكوى شخصية أو هما خاصا، ولكنها ذهبت إليه بمشكلة عامة، تهدد سلامة المجتمع في هذا الوقت.
كان الرجل ينطق ببضع كلمات يسيرة في نطقها، عسيرة فيما يترتب عليها من نتائج وخيمة تزلزل كيان الأسرة، وتهدد أمنها وتعصف بمستقبل الأبناء والبنات، وتنتقل الزوجات من الحياة الطبيعية الآمنة المستقرة إلى حياة الحرمان والألم والعذاب، ولم تعد إلى بيتها إلا بحل جامع مانع للمشكلة، أنهى هذه العادة السيئة، وحدد الكفارة لمن يخطئ ويقع فيها.
عرف الصحابة الكرام فضلها، واحترموا شجاعتها وصدقها، واعترفوا بمكانتها العالية وامتدت شهرتها في الآفاق، وحفظ التاريخ ذكراها إلى يوم الدين.
أقبلت ذات مرة من بعيد فوقف لها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد أن أبصرها وظل واقفا حتى وصلت إليه، فسأله أحد الصحابة تفسيرا لما يفعل فقال له: ويحك، أتدري من تكون هذه؟ إنها امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، واستجاب لدعائها وأنزل فيها سورة المجادلة.
رحم الله خولة بنت حكيم، صاحبة الفضل على كل من اعتنق الإسلام إلى يوم الدين.. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.ة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات .